روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | أول ليلة.. في القبر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > أول ليلة.. في القبر


  أول ليلة.. في القبر
     عدد مرات المشاهدة: 3982        عدد مرات الإرسال: 0

ملخص الخطبة.. 1- أول ليلة في القبر وفراق الإلف. 2- بعض ما قيل في الموت والفراق. 3- قصة وحزن على فقد من مات. 4- نصيحة أبي العتاهية عن فجأة الموت. 5- دفن ذي البجادين وبكاء النبي عليه. 6- خوف عمر بن عبد العزيز من الموت. 7- خوف عثمان من الموت. 8- قصة مؤثرة في موت امرأة.

الخطبة الأولى

عباد الله:

فارقت موضع مرقدي     يومـًا ففارقني السكون

القبــر أول لليـلـة        بالله قـل لـي ما يكون

ليلتان اثنتان، يجعلهما كل مسلم في مخيلته؛ ليلة في بيته مع أطفاله، وأهله، منعمًا سعيدًا، في عيش رغيد، وفي عافية وصحة، يضاحك أولاده ويضاحكونه، والليلة التي تليها مباشرة، أتاه فيها ملك الموت، فوضع في القبر وحيدًا منفردًا.

وهذا الشاعر العربي يقول:

فارقت موضع مرقدي     يومًا ففارقني السكون

القبـر أول ليلـةٍ  بالله قل لـي ما يكون

يقول: لما انتقلت من المكان الذي اعتدت عليه، إلى مكان آخر فارقني النوم، فما بالك كيف تكون الليل الأولى التي أوضع فيها القبر!! حيث لا أنيس، ولا جليس، ولا زوجة، ولا أطفال، ولا أموال.

ثم رُدّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].

أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكى منها الحكماء، وصنفت فيها المصنفات.

أول ليلة في القبر، أتي بأحد الشعراء وهو في سكرات الموت، لدغته حية، وكان في سفر، فنسي أن يودع أمه، وأباه، وأطفاله، وإخوانه، فقال قصيدة، يلفظها مع أنفاسه، تعد من أهم المراثي العربية، يقول وهو يزحف إلى القبر:

فلله درّي يوم أترك طائعـًا     بنيّ بأعلى الرقمتين وداريا

يقولون لا تبعد وهم يدفنوني     وأين مكان البعد إلا مكانيا

يقول: كيف أفارق أولادي في هذه اللحظة، لماذا لا أستأذن أبوي؟ أهكذا تختلس الحياة؟ أهكذا تذهب؟ أهكذا أفقد كل شيء في لحظة؟ ويقول أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد، أي لا أبعدك الله، وهل هناك أبعد من هذا المكان، وهل هناك أوحش من هذا المكان، وهل هناك أظلم من هذا المكان؟! حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99-100].

كلا.. الآن تراجع حسابك، الآن تتوب، الآن تكف عن المعاصي، يا مدبرًا عن المساجد ما عرفت الصلاة، يا معرضًا عن القرآن، يا منتهكًا لحدود الله، يا ناشئًا في معاصي الله، يا مقتحمًا لأسوار حرسها الله، آلآن تتوب، أين أنت قبل ذلك؟!.

أول ليلة في القبر:

ذكر مؤرّخ الإسلام في تاريخه قال: مات الحسن بن الحسن، من أولاد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه وأرضاه – كانت عنده زوجة وأطفال، وكان في الشباب، والموت لا يستأذن شابًا، ولا غنيًا، ولا أسيرًا، ولا ملكًا، ولا وزيرًا، ولا سلطانًا.

الموت يقسم الظهور، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور.

مات الحسن بن الحسن فجأة، فنقلوه إلى المقبرة، ووجدت عليه امرأته، وحزنت حزنًا لا يعلمه إلا الله، فأخذت أطفالها، وضربت خيمة حول القبر[1] – هكذا ذكر مؤرّخ الإسلام – وأقسمت بالله لتبكين هي وأطفالها على زوجها سنة كاملة. هلع عظيم، وحزن دائم، وبقيت تبكي على زوجها، فلما وفت سنة، أخذت أطناب الخيمة وحملتها، وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفًا يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ فردّ عليه آخر قائلًا: لا بل يئسوا فانقلبوا، ما وجدوا ما فقدوا، ما وجدوا ضيعتهم ولا وديعتهم.

كنزٌ بحلوان عند الله نطلبه     خير الودائع من خير المؤدّين

ما كلمهم من القبر، ولا خرج إليهم، ما قبّل أطفاله، ولا رأى زوجته.

هذه هي أول ليلة، ولكن هناك ليالٍ أخرى قال الله تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [الطور:21].

لقد ودّعنا منذ شهر شابين، وقع لهما حادث انقلاب سيارة، وكان عزاؤنا أنهما من الشباب الصالح المستقيم على أمر الله تعالى؛ أما أحدهما فقد كان صاحبًا للقرآن، وكان القرآن صاحبه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه))[2].

هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، وقالت أمه وأبوه: إنه كان يقوم الليل لله رب العالمين، ولذلك خفّت المصيبة، لأنه قدم على قبر هو روضة من رياض الجنة،- إن شاء الله تعالى-.

وأما الثاني: فقد كان مستقيمًا على أمر الله، لا يعرف إلا السجود، والمصحف، والرفقة الصالحة ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].

أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين، غرته قصوره، وما تذكّر أول ليلة ينزل فيها القبر، ونحن نقول لكل عظيم، وكل متكبّر، وكل متجبّر: أما تذكرت أول ليلة!!

هذا السلطان بني قصورًا عظيمة في بغداد، فدخل عليه أبو العتاهية يهنئه على تلك القصور فقال له:

عش ما بدا لك سالمًا      في ظل شاهقة القصور

عش ألف سنة، ألفين، ثلاثة، سالمًا من الأمراض والآفات، يتحقق لك ما تريده من طعام وشراب ولذة.

عش ما بدا لك سالمـًا         في ظل شاهقة القصور

يجري عليك بما أردت      مع الغـدو مع البكـور

ولكن ماذا بعد ذلك:

فإذا النفوس تغرغرت        بزفير حشرجة الصدور

فهنـاك تعلـم موقنـًا         ما كنت إلا فـي غرور

فبكى السلطان حتى أغمي عليه.

أول ليلة في القبر.

وأنا أطالب نفسي وإياكم معاشر المسلمين أن نهيئ لنا نورًا في قبورنا أول ليلة، ولا ينير القلوب إلا العمل الصالح، بعد الإيمان بالله.

خرج النبي إلى تبوك في غزوة، وفي ليلة من الليالي، نام هو أصحابه. قال ابن مسعود: قمت في الليل، فنظرت إلى فراش الرسول عليه الصلاة والسلام فلم أجده في فراشه، فوضعت كفي على فراشه فإذا هو بارد، وذهبت إلى فراش أبي بكر فلم أجده، فالتف إلى فراش عمر فما وجدته. قال: فإذا بنور آخر المخيم في طرف المعسكر، فذهبت إلى ذلك النور، فإذا قبر محفور، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل في القبر، وإذا جنازة معروضة، وإذا ميت قد سُجي في الأكفان، وأبو بكر وعمر حول الجنازة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول لهما: دليًا لي صاحبكما، فلما أنزلاه، وضعه عليه الصلاة والسلام في القبر، ثم دمعت عيناه ثم التفت إلى القبلة، ورفع يديه وقال: ((اللهم إني أمسيت عنه راضٍ فارض عنه)).

قال ابن مسعود: قلت من هذا؟ قالوا: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين؛ مات في أول الليل. قال ابن مسعود: فوددت والله أني أنا الميت.

كان عمر بن عبد العزيز أميرًا من أمراء الدولة الأموية، يغيّر الثوب في اليوم أكثر من مرة، الذهب والفضة عنده، الخدم والقصور، المطاعم والمشارب، كل ما اشتهى وطلب وتمنى تحت يده، وعندما تولى الخلافة وأصبح مسئولًا عن المسلمين، انسلخ من ذلك كله؛ لأنه تذكّر أول ليلة في القبر.

وقف على المنبر، فبكى يوم الجمعة، وقد بايعته الأمة، وحوله الأمراء والوزراء، والعلماء، والشعراء، وقواد الجيش، فقال: خذوا بيعتكم، قالوا: ما نريد إلا أنت، فتولاها، وهو كاره، فما مرّ عليه أسبوع، إلا وقد هزل وضعف وتغيّر لونه، ما عنده إلا ثوب واحد، قالوا لزوجته: مال عمر؟ قالت: والله ما ينام الليل، والله إنه يأوي إلى فراشه، فيتقلّب كأنه ينام على الجمر، يقول: آه آه، توليت أمر أمة محمد يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين، الطفل والأرملة.

قال له أحمد العلماء: يا أمير المؤمنين، رأيناك وأنت ولي مكة، قبل أن تتولى الملك، في نعمة وفي صحة وفي عافية، فمالك تغيّرت، فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، ثم قال لهذا العالم وهو ابن زياد: كيف يا ابن زياد، لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام، يوم أجرد عن الثياب، وأتوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث.. والله لرأيت منظرًا يسوءك، فنسأل الله حسن العمل.

والله لو عاش الفتى في عمره     ألفًا من الأعوام مالك أمره

متنعمـًا فيهـا بكـل لذيـذة      متلذذًا فيها بسكنى قصـره

لا يعتريه الهم طـول حياتـه         كلا ولا ترد الهموم بصدره

ما كان ذلك كله في أن يفـي      فيهـا بأول ليلـةٍ في قبره

فيا عباد الله:

ماذا أعددنا لتلك الليلة والنبي يقول: ((القبر روضةٌ من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار))[3].

كان عثمان بن عفان، إذا شيع جنازة بكى، حتى يغمى عليه، فيحملونه كالجنازة إلى بيته. فقالوا له ذات مرة: مالك؟ قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((القبر أول منازل الآخرة))، فإذا نجا العبد منه، فقد أفلح وسعد وإذا عُذب فيه – والعياذ بالله – فقد خسر آخرته كلها.

والقبر روضـةٌ من الجنان

أو حفرةٌ من حفر النيـران

إن بك خيرًا فالذي من بعده

أفضل عنـد ربنـا لعبـده

وإن يكن شـرًا فبعـده أشد

ويل لعبدٍ عن سبيل الله صد

عباد الله:

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

[1] هذا العمل غير مشروع في الإسلام، وإنما هكذا ذكر الذهبي.

[2] أخرجه مسلم (1/553) رقم (804).

[3] أخرجه الترمذي (4551) رقم (260) وقال: غريب.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

أتيـت القبـور فناديتهـا     أين المعظّـم والمحتقـر

تفانوا جميعًا فمـا مخبـرٌ    وماتوا جميعًا ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا     أمـا لك فيما مضى معتبر

تروح وتغدو بنـات الثرى     فتمحو محاسن تلك الصور

أتيت القبور.. قبور الرؤساء والمرؤوسين، الملوك والمملوكين، الأغنياء والفقراء، استوت جميعًا عند الله – تبارك وتعالى – أرأيت قبرًا مُيز عن قبر؟ أأنزل الملك في قبر من ذهب أو من فضة؟ والله لقد ترك ملكه، وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولبس قطعة من القماش، كما نلبس، ولحد له في التراب.

ولدتـك أمـك يا ابن آدم باكيـًا والناس حولك يضحكون سرورًا

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكـوا في يوم مـوتك ضاحكًا مسرورًا

من الناس من عمل لهذا اليوم، فهم دائمًا متهيئون للقاء الله، مترقبون للموت في كل لحظة. خرج رجل من الصالحين أعرفه، خرج بزوجته من الرياض يريد العمرة، وكانت زوجته صائمة قائمة ولية لله تعالى، وقبل السفر، حدث شيء غريب، وهو أن هذه المرأة أخذت تودع أطفالها، وتقبلهم، ثم كتبت وصيتها وهي تبكي، كأنه ألقي في خلدها أنها ستموت.

ذهب الرجل بأهله واعتمر، وفي طريق العودة أتى الأجل المحتوم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم على الآخرة هم غافلون [الروم:6-7].

انحرف إطار السيارة فانقلبت، ووقعت المرأة على رأسها، ولكنها شهيدة إن شاء الله. أولئك الذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون [الأحقاف:16].

خرج زوجها من السيارة، ووقف عليها وهي في سكرات الموت تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الله.. الله، الله ثم قالت لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة، بلغ أهلي السلام: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسبت رهين [الطور:21].

نسأل الله تعالى أن يجمع تلك الأسرة في الجنة إنه على كل شيء قدير.

بنتـم وبِنّا فمـا ابتلّت جوانحنـا    شـوقًا إليكم ولا جفّت مآقينـا

تكـاد حين تناجيكـم ضمائرنـا     يقضي علينا الأسى لولا تأسيّنا

إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ففي   مواقف الحشـر نلقاكـم ويكفينا

عاد الرجل وحده إلى الرياض، فدخل بيته واستقبله أطفاله، وكان الموقف الرهيب.. قالت له طفلة من بناته: أين أمي، فيجيب الرجل: سوف تأتي، فتقول الطفلة: لا والله لابد أن أرى أمي، وعندئذ انهار الرجل ولم يتمالك نفسه، ولم يجد جوابًا لابنته، فنقول لتلك الطفلة: سوف ترين أمك بإذن الله، سوف ترينها في جنة عرضها السموات والأرض، أعدت المتقين.

فاعمل لدارٍ غدًا رضوان خازنهـا    الجـار أحمد والرحمن بانيها

قصـورها ذهب والمسك طينتهـا    والزعفران حشيش نابتٌ فيها

فيا إخوتي في الله: هل أعددتم لأول ليلة في القبر؟ ويا شيخًا كبيرًا أحدودب ظهره، ودنا أجله، هل أعددت لأول ليلة؟ يا شابًا غره شبابه وطول أمله، هل أعددت لأول ليلة؟ أيقظني الله وإياكم من رقدة الغافلين، وحشرني الله وإياكم في زمرة المتقين.

عباد الله:

وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [سورة الأحزاب:56].

وقد قال: ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا))[1].

اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك يا أرحم الراحمين.

[1] أخرجه مسلم (1/288)، رقم (384).


الكاتب: عائض القرني

المصدر: موقع نواحي